رواياتقطرة مطر

رواية قطرة مطر الجزء الثاني للمؤلفة مني لطفي

رواية قطرة مطر الجزء الثاني للمؤلفة مني لطفي

وجّه معاذ كلماته لرزق وعيناه مسلطتان عليها يشعر بمرح غريب من انفعالات هذه الفتاة سليطة اللسان:

– حسنا رزق، استرح قليلا على إحدى الطاولات واطلب شيئا تتناوله قبل أن نستأنف رحلة العودة…

أومأ رزق برأسه شاكرا واتجه ليتخذ مجلسا خلف إحدى الطاولات ليس ببعيد عنهما، في حين نظرت هي إليه وقد قررت التأكد من هويّته، مع أنها على يقين أن الجالس أمامها هذا ينطبق عليه وصف “وليعاذ بالله”.. خاصتها!!!

تشجعت وسألت بلهفة راجية أن يكون حدسها صائبا:

– هل لي أن أعرف…

قاطعها بابتسامة هادئة قائلا بثقة:

– الـمعاذ بالله صاحب المؤسسة العالمية للتجارة!!!…

شحب وجهها بينما تابع بابتسامة ساخرة:

– ألم يكن هذا هو سؤالك؟.. ما هو عملي؟… ونعم… أنا هو…. من تصبّحت به في يومك هذا، وإن كنّا لم نتقابل وجها لوجه إلا اليوم!!!!!…

هزّت برأسها إلى الأسفل والأعلى ببطء، قبل أن تنتبه لفمها المفتوح فشرعت باغلاقه حينما قاطعهما النادل جالبا الطلبات، ليضعها أمامهما قبل أن يحرك رأسه بتحية خفيفة منصرفا، أشار معاذ لقدح القهوة قائلا ببساطة:

– اشربي قهوتك قبل أن تبرد!!!

مطر وهي لا تزال في حالة صدمة:

– شربت!!!!…

قطب معاذ متسائلا:

– ماذا؟…

مطر وقد انتبهت لكلمتها:

– أعني سأشرب، بالتأكيد سأشرب!!!

وشرعت برفع قدح القهوة الى فمها لتحتسي رشفة كبيرة علّها تشعر بالدفء في داخلها، فقد تجمدت أطرافها ما أن علمت بحقيقة هويته!!!

معاذ بتلقائية يخفي اهتماما بإجابتها:

– وفي أي قسم تعملين؟..

أخبرته بكلمات جامدة عن عملها كسكرتيرة في إحدى أقسام المؤسسة، قبل أن تستأنف شارحة:

– أي أن قسمي بعيد كل البعد عن الطابق المخصص للإدارة، فلم يسبق لي وأن رأيتك سوى بضعة مرات قليلة ومن بعيد، ولهذا لم أستطيع التعرف عليك ما أن شاهدتك…

معاذ بهدوء:

– وبطبيعة الحال أنا ايضا لا أعلم جميع موظفي أقسام مؤسستي، فلم يسبق لي وأن رأيتك قبلا، عامة… هل لي أن أعلم ما دخلي أنا في يومك المنحوس على حد قولك؟..

زفرت بتعب ونظرت إليه وقد أسقط في يدها فمن المؤكد أنها مطرودة من عملها، فهي قد تطاولت عليه هو صاحب العمل وعابت في ذاته السامية، لتشعر بالسأم من كل هذا، فقد تكالب عليها تعب اليوم كله سواء البدني أو النفسي لتجيبه بدون تعبير:

– تأخرت عن استقبال والدي العائد من السفر اليوم، وقد كنت أمنِّي نفسي بوجودي في المنزل حال قدومه، ثم حادثة السرقة التي حصلت في فرع الشركة، الأمر الذي جعل أجواء العمل في حالة استنفار قصوى، وكأن الجميع لا بد وأن يعاقب!!

مال ناحيتها مقطبا بينما استرسلت ببساطة:

– كما نسيت مظلتي صباحا فقد كان الجو صحوّا، ولكن نتيجة لتأخري بالعمل وعندما انصرفت، كان الليل قد بدأ يرخي سدوله، وهطلت الأمطار، واكتشفت فراغ بطارية هاتفي الشخصي، فلم أستطع الاتصال بالمنزل لأخبرهم بسبب تأخري، فطوال اليوم لم أكد أفرغ لدقيقة كي أحادث أمي، وبالطبع ما حدث منذ رأيتك إلى الآن، ناهيك عن انعدام وسائل المواصلات، وثقب عجلة السيارة في الوقت الذي قاربت فيه على الوصول إلى منزلي… وختمت باكتشافي أن الرجل الذي أجالسه لما يزيد عن ساعتين ما هو إلا رئيسي في العمل، والذي أيضا أسمعته سخريتي منه بآذانه! بالله عليك.. هل رأيت حظّا أكثر من ذلك؟!!!!

ارتفعت زاوية فمه المظلل بلحية وشارب قصيرين مخففين باللون الأبنوسي في ابتسامة طفيفة بينما ترك لنفسه العنان كي يتفحصها بنظراته فتلك الفتاة قد نجحت في لفت أنظاره إليها، هو من لا يلتفت مطلقا إلى الجنس الناعم على الرغم من كثرتهن، فهن يرتمين أسفل قدميه، وذلك لوسامته الملحوظة وثرائه الفاحش، حيث ورث شركة والده وعمل بجد واجتهاد حتى غدت من أكبر المؤسسات التجارية العملاقة بالبلد، وأصبح هو في مصاف أكبر رجال الأعمال، وهو لم يتعد الخامسة والثلاثين من عمره، ولأنه وحيد أبويه.. فقد زادت أطماع النساء من حوله فيه، ولانشغاله بتأمين شركته صرف النظر نهائيا عن موضوع الزواج، خاصة بعد خطبته الفاشلة لإحدى الفتيات من بنات عائلة عريقة، حيث اكتشف عن طريق الصدفة البحتة أنها لم تتقرب اليه سوى لاسم عائلته، وثرائه الفاحش، فقد سمعها وهي تتحدث مع صديقتها في هذا الأمر، متفاخرة بأن خطيبها مجنون بها وبجمالها، وأنها قد نجحت فيما فشلت فيه غيرها، ألا وهو إيقاعه في فخ الزواج، ولم تكن تعلم بوجوده في النادي بل وجلوسه على الطاولة المجاورة، ليفاجئها يومها وما أن انتهت من حديثها كاشفا عن نفسه وفسخ الارتباط بها تاركا خاتمه الألماس لها كتذكار، فهو قد أصبح خاتما مستعملا، وهو.. لا يحب إلا ما هو جديد!!

ومن وقتها لَغى التفكير في الزواج نهائيا من رأسه، الأمر الذي يدفع والدته بالضغط عليه بين كل حين وآخر، فهي تريد رؤية أحفادها قبل أن تموت، ليتملّقها مرة، ويهادن أخرى، ويرفض بقوة في الثالثة!!!…

ثلاث سنوات منذ فسخه لخطبته وهو لم يلتفت لأية أنثى مهما بلغ جمالها أو حسبها، ولكن تلك الصغيرة التي لا يكاد طولها يصل كتفيه نجحت فيما فشلن فيه الأخريات، فهي لم تلفت انتباهه إليها فقط بل وأثارت فضوله تجاهها أيضا، ولأول مرة منذ وفاة والده منذ ما يزيد عن عشر سنوات يشعر بمذاق غريب ليومه، وكأنها بجنونها وسلاطة لسانها قد أضفت لونا ربيعيا على أيامه الحالكة، ما جعله يشعر وكأنه يستنشق هواء عليلا بعد طول اختناق!!!..

سافرت عيناه على وجهها بدءا من خصلاتها المتناثرة فوق معطفها الصوفي الأسود، والتي تصل حتى منتصف كتفيها، والغريبة تماما كغرابة صاحبتها، فهو لا يستطيع تحديد لونا معينا لها، فمن يراها من بعيد يظنها بلون الشوكولاتة، ومن يدنو منها يخالها بنية اللون، أما من يقترب منها ويصبح على بعد بوصات قليلة كما هو الآن، فيبرق في عينيه لون نحاسي وهّاج، يكاد يخطف بصره، ليدقق أكثر وينظر الى شعرها متمعّنا، عاقدا حاجبيه بتركيز، وما هي الا ثوان حتى كانت عقدة جبينه قد انفكت، وارتفع حاجبيه في تنافر الى أعلى، فتلك الخصلات الثائرة، متداخلة الألوان، وكأنها قوس قزح ولكن بدرجات البنيّ!!.. ليعلم أن خصلاتها تلك مجنونة تماما كـ.. صاحبتها!!!

وفيما هي منشغلة بارتشاف قهوتها الساخنة، أكملت عيناه رحلتهما فانتقلت الى وجهها الذي يتخذ شكل القلب، بعينيها الواسعتين ذو بركتي من شذرات العسل الصافي، يظللهما رموشا كثيفة، وحاجبين مرسومين بفعل الطبيعة دون تدخل من أخصائي للزينة، ثم أنفها الصغير بأرنبته المدببة، المرفوعة لأعلى دليلا على شموخها الذي أثار اعجابه اليوم، ويشرف هذا الأنف على شفاه ممتلئة نديّة لثغر صغير، وكأنه حبة كرز صغيرة حمراء، يقبع أسفله ذقن ذو نغزة عميقة فيما يسمى بـ “طابع الحسن”… وبنظرة سريعة الى كتفيها النحيلتين تذكر بعدها وقت أن كادت تنزلق ليسارع هو بانقاذها محيطا خصرها بذراعه، بأن بنيتها ضئيلة، وجسدها رقيق، ليعلم أن أسفل هذا المعطف الصوفي يقبع جسدا.. في غاية الليونة والرقة!!!…

كان سارحا فيها لتشير بيدها يمينا ويسارا عدة مرات أمام وجهه وهي تناديه عاليا:

– هايْ.. سيدي.. هل تسمعني؟..

أنتبه من استغراقه في تأملها ليقول وقد عاد لنظراته غموضها:

– نعم أسمعك.. وجوابا على سؤالك عن حظك لهذا اليوم، أقول.. أن ما حدث مجرد صدف ليس إلا… أما عن عقابي للموظفين جميعهم فهذا اعتقاد خاطئ ولكن كان لزاما أن أضع الجميع في الصورة، كي يعلموا أنني لا أتسامح في خيانة الأمانة… فكله إلا.. الخيانة!!!

شردت مطر لثانية قائلة:

– صدقت… كله إلا الخيانة!!

وقبل أن يتثنى له التعقيب على كلامها أردفت هي قائلة:

– ولكن.. ما السبب الذي حدا بذلك الموظف ليقوم بفعلته تلك؟.. أعني.. على حسب علمي فأنا أعلم أنه يعمل لديك منذ زمن، وأنه لم يسبق له وأن صدر عنه ما يسوء، والكل يشهد بحسن سيرته، هذا وأنا لم أكد أتمّ العام في المؤسسة، إذن لا بد من وجود سبب قوي دفعه لمثل هذا الفعل الشائن!!!!

معاذ محركا كتفيه بلا مبالاة وببرود رجل الأعمال القوي:

– مهما كان السبب، فالخيانة لا عذر لها عندي، وسرقته واختلاسه لأموال المؤسسة التي يعمل بها ومن المفترض أنه أمينا على أموالها لا يبررها أي سبب مهما بلغت قوّته!!

قطبت مطر قائلة باعتراض:

– ولكن.. هو أولا وأخيرا بشر وليس ملاك، ليس معنى هذا أنني في صفّه، كلا، بل أني ما أن سمعت بما حدث حتى استأت منه بشدة، ولكن… هناك حلقة مفقودة، فرجل طيب السمعة مثله، لا يجب التعامل معه كآخر مشكوك بأمره!!..

معاذ ببرود:

– أتريدين القول أنه كان لا بد لي أن أسأله عن سبب سرقته لأموالي؟!.. أي أنه بدلا من تقديمه للشرطة أن لم يعيد ما سرقه خلال ثمانية وأربعين ساعة مع العلم أن كل الأوراق اللازمة لإدانته بحوزتي كي لا يفكر بالهرب، أطلب له كوبا من عصير الليمون كي يهدأ ثم أسأله بعدها ترى… لما سرقني؟.. أي هراء هذا؟!!!!

نظرت اليه مطر بجمود أجابت بعدها ببرود:

– صدقت.. فهو أولا وأخيرا ما هو إلا هراء بالنسبة لك، فمن يكون مصطفى بالنسبة لك؟.. – هزت كتفيها باستهانة متابعة بلهجة ساخرة – أولا وأخيرا هو موظف لديك، ومهما كانت أسبابه ودوافعه فلا تهمك في شيء، فالأهم هي أموالك الثمينة!!!

هدر فيها بغضب مكتوم مذهولا من غبائها:

– أنت بحديثك هذا وكأنك تبررين ما فعله بل وتلتمسين العذر له، وكأنه حتى وأن كانت ظروفه هي السبب فلا داعي لمعاقبته!!.. ما رأيك أن أهديه شهادة تقدير أيضا لنجاحه في اختلاسه أموالي؟!!!!

مطر بحنق وصوت منخفض:

– لا داعي للسخرية سيدي، فقد سبق وأخبرتك أنني ضد ما قام به، ولكن هناك شيئا اسمه الرحمة، خاصة وأن كان مشهود له بالسمعة الطيبة والأخلاق الحسنة، ألم ينتابك ولو فضول بسيط عن أسبابه؟..

معاذ بترفع:

– لا يهمني، هو سارق، مهما كانت أعذاره أو دوافعه!!

مطر بجمود:

– هل تعلم أنه ربّ أسرة مكونة من خمسة أفراد؟.. زوجة وأربعة من الأبناء خلافه!!.. أبنائه جميعهم في مراحل التعليم المختلفة، أكبرهم يدرس بالجامعة، وأصغرهم بالصف الخامس الابتدائي، وكان الحال مستقر بهذه الأسرة البسيطة، ليتغير فجأة مصطفى، ويبدأ زملائه بملاحظة شروده الكثير، وبدأ يبتعد عنهم ولا ينخرط بهم عكس ما كان عليه، وتطايرت الأنباء عن حالة ابنه الصغير الصحية، وبعد حادثة السرقة، بعضهم قال أن السبب فيما قام به هو هذا الابن!!!!

تعمقت عقدة جبينه وسأل بصوت خشن:

– وأنت من أين لك بهذه المعلومات؟..

مطر بنصف ابتسامة استهزاء:

– من مميزات العمل وسط غيري من الموظفين العاديين هو تبادل الأخبار وسرعة انتشارها، فمن لحظة وصولك صباحا وما أن ذاع خبر السرقة التي اكتشفتها، حتى كان الزملاء يسارعون بالاتصال بزملائهم بفرع الشركة حيث يعمل مصطفى، والوقوف على الأخبار مفصّلة، لتتكون لديهم هذه المعلومات التي أخبرتك بها لتوِّي، والتي أكاد أجزم أنك تسمعها ولأول مرة!!!!

فكّر معاذ  معترفا على مضض بأنها على صواب، فهو ما أن اكتشف واقعة السرقة حتى شرع في الإجراءات القانونية متجاهلا توسلات مصطفى والذي كاد يقبل يديه كي يمنحه الفرصة ليشرح، وما أن همّ بالكلام حتى سارع بنهره معتقدا أن ما يقوله ما هو إلا مجرد أكاذيب وذرائع لفعلته الشنيعة، وسرقته لأموال المؤسسة!!!!

قطع صوتها حبل أفكاره وهي تقول ببرود:

– أعتذر سيدي، ولكنني قد تأخرت بالفعل عن موعد رجوعي، ولا بد أن أمي قلقة عليّ للغاية خاصة وأنها من المؤكد تقوم بالاتصال بي ولكن هاتفي لا يعمل، وأنا لا أريد أن أسبب لها المزيد من القلق وأفسد عليها فرحتها بعودة زوجها، لذا أرى من الأفضل أن أنصرف، فالمطر قد توقف تماما، كما أن المنزل قريب وأستطيع ايجاد سيارة أجرة بسهولة!!

أجاب معاذ بهدوء:

– أولا أنت لم تأكلي فطيرتك!!!…

نظرت الى الفطيرة التي كانت ساخنة وكانت رائحة الجبن الشهية تفوح منها لدرجة تسيل لها اللعاب ولكنها الآن أصبحت مجلّدة، وقد فقدت رائحتها تلك، لتقول وهي تطالع الصحن حيث تقبع الفطيرة بخيبة:

– فقدت شهيتي تماما كما فقدت هي رائحتها الطيبة!!!

ضحك معاذ نصف ضحكة قبل أن يشير الى النادل يأمره بإعادة تسخين الفطيرة، وما أن حمل النادل الصحون ورحل حتى أخرج هاتفه الشخصي ومد يده به إليها قائلا وابتسامته لا تزال فوق شفتيه:

– هاك.. اتصاي بوالدتك وطمئنيها عليك…

ترددت لثانية قبل أن تقول محاولة لمرة أخيرة:

– ولكن أنا أستطيع الانصراف، وتستطيع أنت المكوث كيفما شئت و….

قاطعها بحزم قائلا:

– لن تعودي الى منزلك بمفردك في مثل هذا الوقت، وقد غطى الظلام كل شيء، خاصة وليل الشتاء طويل، وأعتقد أن العودة معي آمن لك من استقلال سيارة أجرة في شارع شبه خال في مثل هذا الوقت؟!!

زفرت بضيق فهو على صواب، تناولت بعدها هاتفه لتضغط أرقام هاتف منزلها فاستمعت لرنينه قليلا قبل أن يأتيها صوت والدتها الحنون والذي استجلب بسمة رقيقة على شفتيها جعلتها تحدث أمها بوداعة اندهش منها معاذ، الذي سمع صوت أمها وهو يهتف عاليا بضيق وقلق عن سبب تأخرها كل هذا الوقت ولما هاتفها مغلق، لتجيبها مطر بأن التأخر سببه بعض الأمور في العمل، وأن هاتفها قد فرغ شحنه ولهذا لم تستطع الاتصال بها، وعندما سألتها عن الهاتف الذي تحدثها منه همّت مطر بالاجابة حينما فوجئت بيد رجولية تسحب منها الهاتف لتطالعه بذهول فيما أجاب هو بصوت رجولي رخيم يعرّفها بنفسه بأنه صاحب العمل وأنه سيقوم بتوصيل ابنتها الى منزلها فالوقت قد تأخر، بل ويعتذر منها عن كونه السبب في قلقها الواضح على صغيرتها!!!!

لتتبدل نبرة أمها وقد استطاع امتصاص غضبها، وتجيبه بحنانها الواضح أنها شاكرة لمعروفه مع ابنتها، وأنهى الاتصال وهو يعدها أن ابنتها ستصل قريبا سليمة ومعافاة!!

عاد النادل حاملا صحنيهما وقد أعاد تسخين الفطيرتين، ووضعهما على الطاولة قبل أن ينصرف، ليشير معاذ الى فطيرتها قائلا ببساطة:

– هيا تناولي طعامك قبل أن يبرد ويعيد النادل تسخينه للمرة الثالثة!!!

وشرع هو بالتهام فطيرته بتلذذ واضح، فراقبته وهو يقوم بتقطيعها بواسطة الشوكة والسكين، لتحرّك رأسها يمينا ويسارا بتعجّب قبل أن ترفع الفطيرة بيديها وتقضم بأسنانها البيضاء قضمة صغيرة، أغمضت عينيها بعدها وهي تصدر صوت تلذذ بطعم الجبن السائح، لتنكب بعدها على فطيرتها بينما راقبها هو وعيناه مسمرتان عليها فهي تأكل بلذة عجيبة، شعر بعدها وكأن عدوى قد انتقلت اليه إذ ترك شوكته وسكينه جانبا ورفع هو الآخر فطيرته بيديه يأكلها تماما كما رآها تفعل، ليشعر ويا للغرابة بأن مذاقها قد اختلف، وأنه قد أصبح ألذّ بكثيرعن ذي قبل!!!..

أنهت مطر طعامها لينظر اليها وقد انتهى بدوره من التهام فطيرته ثم قال بابتسامة تسببت في أن يفقد قلبها دقة من دقاته وهي مذهولة من تأثير ابتسامته عليها:

– أتريدين تناول قدحا من القهوة عوضا عن الآخر الذي برد؟..

أشارت برأسها نافية وهي تقول:

– كلا، شكرا… فقد تأخرت بالفعل..

أشار معاذ الى النادل بإحضار الفاتورة قبل أن يوجه سؤاله اليها:

– صحيح.. أخبرتني أن والدك سيعود اليوم من السفر، ومنذ قليل أخبرتني أنك لا تريدين أن تفسدي على والدتك فرحتها بعودة زوجها!!… أليس زوجها هذا هو والدكِ؟..

مطر ببساطة وهي تهز برأسها نفيا:

– كلا.. بابا رياض هو زوج والدتي، فقد فقدت والدي وأنا بنت ثلاث سنوات، وهو من قام بتربيتي منذ أن كنت في السابعة من عمري، ولكني لم أشعر يوما أنه ليس والدي الفعلي، فهو في غاية الطيبة والكرم معي، وأحمدُ الله ليل نهار على وجوده في حياتنا، فيكفي احساسي بالأمان وأنا معه، فهو سندي وعزوتي، من أشد به ظهري!

شعر معاذ بصدق كلماتها النابعة من قلبها، ليقاطعهما النادل وبعد أن دفع معاذ الفاتورة ومنحه بقشيشا سخيا قالت مطر وهي تفتح حقيبتها اليدوية:

– كم المبلغ الذي دفعته؟..

معاذ بتقطيبة حائرة:

– ولما؟..

مطر وهي تخرج حافظة نقودها:

– سأدفع لك ثمن ما طلبت!

طالعها باستهجان صارخ هادرا بغضب ناري:

– ماذا؟…

قطبت بغير فهم:

– ماذا.. ماذا؟..

معاذ بشراسة من بين أسنانه المطبقة:

– ألست برجل كفاية أمامك؟.. هل تنتظرين مني الموافقة على ترهاتك هذه؟..

مطر وهي تحرك كتفيه ببساطة:

– ولأنك رجل فيستحيل أن أقبل منك ولو ثمن كوب ماء، ثم أنني أمتلك نقودا والحمد لله، وغير هذا وذاك أنت مجرد رئيسي في العمل، أي أنك غريب عني، وأنا لا أسمح لقريب لي أن يدفع لي ثمن طعامي، فما بالك بآخر لم أعرفه إلا منذ ساعتين فقط؟!!!

معاذ بصرامة:

– أعيدي نقودك، وأوقفي الحديث في هذا الأمر، لا تستفزيني وتثيري جنوني أكثر من هذا (ملوّحا بسبابته في وجهها في تهديد يصاحبه نظرة وعيد وتحذير)..

هتفت مطر بتقطيبة اعتراض:

– ولكن…

نهض واقفا دفعة واحدة وهو يقول آمرا:

– أن كنت قد انتهيت فهيّا أمامي، فلا بد أن والدتك في انتظارك على أحر من الجمر..

وغادر الطاولة دون أن يترك لها الفرصة للرد، لتزفر حانقة، وتسرع باللحاق به وهي تتمتم بسخط في سرها بأنه كل مدى وهو يثبت لها بأنه.. “وليعاذ بالله”… فعلا!!!

*************************************

يتبع….

جميع الحقوق محفوظة للمؤلفة مني لطفي

تحت رعاية مبادرة كلمات ليست ككلمات

لمتابعة الجروب الرسمي للمبادرة علي الفيس بوك : من هنا

زر الذهاب إلى الأعلى