قصص دينيةقصص وعبر

قصة أبو سفيان بن الحارث

اليوم بمشيئة الله نكمل معكم قصص الأبطال الأخيار الأطهار مع رجل عاش حياة ما بين الحب الجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الكره الشديد ومحاربة الرسول سنينا عديدة ثم محاولة التكفير عن كل ما مضى حتى قال عنه النبى ( أبو سفيان بن الحارث سيد فتيان الجنة ) .

قصة أبو سفيان بن الحارث
قصة أبو سفيان بن الحارث

قلَّ أن اتصَلَتِ الأسبابُ بين شخصين وتوثقت العرى بين اثنين كما اتصلت وتوثقت بين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وبين أبي سفيان بن الحارث ، فقد كان أبو سُفيان لِدةً (من ولد معه في زمن واحد وكذلك) من لِدات الرسول صلى الله عليه وسلم وترباً من أترابهِ فقد ولدا في زمن متقارب ونشآ في أُسرةٍ واحدةٍ .

وكان ابن عم النبي اللصيق فأبوه الحارث وعبد الله والد الرسول صلى الله عليه وسلم أخوان ينحدران من صلب عبد المطلب ، ثم إنه كان أخاً للنبي من الرضاع فقد غذتهما السيدة حليمة السعدية من ثديها معاً وكان بعد ذلك كله صديقاً حميماً للرسول صلى الله عليه وسلم قبل النبوة وأشد الناس شبهاً به فهل رأيت أو سمعت قرابة أقرب أو أواصر أمتن من هذا الذي كان بين محمد بن عبد الله وأبي سفيان بن الحارث .

لذا فقد كان المظنون بأبي سفيان أن يكون أسبق الناس إلى تلبية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأسرعهم مبادرة إلى اتباعه ، لكن الأمر جاء على خلاف كل ما يتوقعه المتوقعون ، إذ ما كاد الرسول عليه الصلاة والسلام يظهر دعوته وينذر عشيرته إلا شبت نار الضغينة في نفس أبي سفيان على الرسول صلى الله عليه وسلم فاستحالت الصداقة إلى عداوة والرحم إلى قطيعة والأُخوة إلى صد وإعراض .

ولقد كان أبو سفيان بن الحارث يوم صدع الرسول بأمر ربه فارساً من أنبه (أشهر) فرسان قريش ذِكراً وشاعراً من أعلى شعرائهم كعباً فوضع سنانه ولسانه في محاربة الرسول ومُعاداة دعوته وجَنَّدّ طاقته كلها للنِّكاية (الإيذاء والقتل) بالإسلام والمسلمين ، فما خاضت قريش حرباً ضد النبي إلا كان مِسعَرها (موقدها) ولا أوقعت بالمسلمين أذى إلا كان له فيه نصيب كبير .

ولقد أيقظ أبو سفيان شيطان شِعرِه وأطلق لسانه في هِجاء صلوات الله وسلامه عليه فقال فيه كلام مُقذِعاً (بذيئاً) فاحشاً موجعاًوطالت عداةُ أبي سفيان للنبي عليه الصلاة والسلام حتى قاربت عشرين عاما ، لم يترك خلالها ضرباً من ضروب الكيد للرسول إلا فعله ولا صنفاً من صنوف الأذى للمسلمين إلا اجترحه وباء بإثمه .

وقبيل فتح مكة بقليل كُتَبَ لأبي سفيان أن يُسلِم وكان لإسلامه قصة مثيرة وعتها كتب السِّير وتناقلتها أسفار التاريخ فلنترك للرجلِ نفسه الحديث عن قصة إسلامه فشعوره بها أعمق ووصفه لها أدق وأصدق ، قال : لما أستقام أمُر الإسلام وقَرَّ قرارُه وشاعت أخبارُ تَوَجُّهِ الرسول إلى مكة لِيفتحها .

ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت وقلت : إلى أين اذهب ومن أصحب ومع من أكون ، ثم جئت زوجتي وأولادي فقلت : تهيؤوا للخروج من مكة فقد أوشك وصول محمد وإنّي لمقتول لا محالة إن أدركني المسلمون ، فقالو لي : أما آن لك أن تبصر أن العرب والعجم قد دانت لمحمد بالطاعة واعتنقت دينه وأنت لا تزال مُصِرّاً على عَداوَتِه وكنت أولى الناس بتأييده ونصره ، وما زالو بي يعطفونني على دين محمد ويرغبونني فيه حتى شرح الله صدري للإسلام .

قمت من توِّي وقلت لغلامي (مذكور) هَيِّىء لنا نوقاً وفرساً وأخذت معي ابني جعفرا وجعلنا نغذ (نسرع) السير نحو الأبواء بين مكة والمدينة فقد بلغني إن محمداً نزل فيها ، ولما اقتربت منها تنكرت حتى لا يعرفني أحد فأُقتل قبل أن أصل إلى النبي وأعلن إسلامي بين يديه .

ومضيت أمشي على أقدامي نحواً من ميل وطلائع المسلمين تمضي مُيَمِّمة (متجه) شطر مكة جماعةً إثرَ جماعةٍ فكُنتُ أتنحى عن طريقهم فرقاً (خوفاً) منهم وخوفا من أن يعرفني أحد من أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وفيما أنا كذلك إذ طلع الرسول في موكبه فتصديت له ووقفت تلقاءه وحسرت وجهي فما إن ملأَّ عينيهِ مني وعرفني حتى أعرض عني إلى الناحية الأخرى فتحولتُ إلى ناحية وجهه فأعرض عني وحوَّل وجهه فتحولت إلى ناحية وجهه حتى فعل ذلك مرارا .

كنت لا أشك وأنا مُقبل على النبي أنه سيفرح لإسلامي وأن أصحابه سيفرحون لفرحه ، لكن المسلمين حين رأو إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عني تجهَّموا (عبسوا في وجهي) لي وأعرضوا عني جميعاً ، لقد لقيني أبو بكر فأعرض عني أشد الإعراض ونظرت إلى عمر بن الخطاب نظرة أستلين بها قلبه فوجدته أشد إعراضا من صاحبه بل إنه أغرى (حرضه عليّ) بي أحد الأنصار .

فقال لي الأنصاري : يا عدو الله أنت الذي كنت تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقد بلغتَ في عداوة النبي مشارق الأرض ومغاربها وما زال الأنصاري يستطيل عليّ ويرفع صوته والمسلمون يقتحمونني بعيونهم ويُسرون مما أُلاقي .

عند ذلك أبصرت عمي العباس فلذت (لجأت إليه) به وقلت : يا عَمّ قد كنت أرجو أن يفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامي لقرابتي منه وشرفي في قومي وقد كان منه ما تعلم فكلمه ليرضى عني فقال : لا والله لا أُكلمه كلمة أبداً بعد الذي رأيته من إعراضه عنك إلا أن سنحت فرصة فإني اُجِلُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهابُه .

فقلت : يا عَمّ إلى من تكلني إذاً ،  فقال : ليس لك عندي غير ما سمعت فتملكني الهم وركبني الحزن ولم ألبث أن رأيت ابن عمي علي بن أبي طالب فكلمته في أمري فقال لي مثل مقالة عمنا العباس ، عند ذلك رجعت إلى عمي العباس وقلت يا عم إذا كنت لا تستطيع أن تعطف على قلب الرسول فكف عني ذلك الرجل الذي يشتمني ويغري الناس بشتمي .

فقال صفه لي فوصفته له ، فقال : ذلك نعيمان بن الحارث النجاري فأرسل إليه وقال له : يا نعيمان إن أبا سفيان ابن عم الرسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أخي وإن يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساخطاً عليه اليوم فسيرضى عنه يوما فكف عنه ، وما زال به حتى رضي أن يكف عني وقال لا أعرض له بعد الساعة .

ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجحفة (مكان على الطريق بين المدينة ومكة) جلست على باب منزلي ومعي ابني جعفر قائما فلما رآني وهو خارج من منزله أشاح عني بوجهه ، فلم أيأس من استرضائه وجعلت كلما نزل من منزل أجلس على بابه وأقيم ابني جعفرا واقفا بإزائي فكان إذا أبصرني أعرض عني ، وبقيتُ على ذلك زماناً .

فلما اشتد علي الأمر وضاق قلت لزوجتي : والله ليرضين عني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لآخذن بإبني هذا ثم لنذهبن هائمين على وجهينا في الأرض حتى نموت جوعً وعطشاً ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لي ولما خرج من قُبته نظر إلي نظرا أليَنَ من النظر الأول ، وكنت أرجو أن يبتسم .

ثم دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فدخلت في ركابه وخرج إلى المسجد فخرجت أسعى بين يديه لا أُفارقه على حالٍ ، ولما كان يوم حنين جمعت العرب لحرب النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تجمع قط وأعدت لِلقائه ما لم تعد من قبل وعزمت على أن تجعلها القاضية على الإسلام والملسمين .

وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم للقائِهم في جموع من أصحابه ، فخرجت معه ولما رأيت جموع المشركين الكبيرة قلت : والله لأكفرن اليوم عن كل ما سلف مني من عدواةٍ رسول صلى الله عليه وسلم وَلَيَرينَّ النبي من أثري ما يرضي الله ويرضيه .

ولما التقى الجمعان اشتدت وطأة المشركين على المسلمين فدبَّ فيهم الوهن والفشل وجعل الناس يتفرقون عن البني وكادت تحل بنا الهزيمة المنكرة ، فإذا بالرسول فداه أبي وامي يثبت في قلب المعركة على بغلته الشهباء كأنه الطود الراسخ ويجرد سيفه ويجالد عن نفسه وعن من حوله كأنه الليث عادياً .

عند ذلك وثبتُ عن فرسي وكسرت غمد سيفي والله يعلم إني أُريد الموت دون رسول الله وأخذ عمي العباس بلجام بَغلةِ النبي ووقف بجانبه وأخذت أنا مكاني من الجانب الآخر وفي يميني سيفي أذود به عن رسول الله أما شمالي فكانت ممسكة بركابه .

فلما نظر النبي إلى حسن بلائي قال لعمي العباس : من هذا ؟ فقال : هذا أخوك وابن عمك أبو سفيان بن الحارث فارضِ عنه يا رسول الله فقال : قد فعلت وغفر الله له كل عداوة عادانيها فاستطار فؤادي فرحا برضى الرسول عني وقبلت رجله في الركاب ثم ألتفت إلي فقال : ( أخي لعمري تقدم فضارب ) ألهبت كلمات الرسول صلوات الله عليه حماستي فحملت على المشركين حملةً أزالتهم عن مواضعهم وحمل معي المسلمون حتى طردناهم قدر فرسخ (الفرسخ ، ثلاثة أميال) وفرقناهم في كل وجه .

ظل ابو سفيان منذ حنين ينعم بجميل رضى النبي عنه ويسعد بكريم صُحبته ولكنه لم يرفع نظره إليه أبداً ولم يثبت بصره في وجهه حياءً منه وخجلا من ماضيه معه ، وقد جعل أبو سفيان يعضُّ بنان الندم على الأيام السود التي قضاها في الجاهلية محجوباً عن نور الله محروماً من كتابه فأكبَّ على القرآن ليله ونهاره يتلوا آياته ويتفقّه في أحكامة ويتملَّى من عظاته وأعرض عن الدنيا وزهرتِها وأقبل على الله بكل جارحةٍ من جوارحه .

حتى إن الرسول صلوات الله وسلامه عليه رآه ذات مرةٍ يدخل المسجد فقال لعائشة رضي الله عنها : (أتدرينَ من هذا يا عائشة) قالت : لا يا رسول الله ، قال : (إنه ابنُ عمي أبو سفيان بنُ الحارث انظري إنه أوَّل من يدخلُ المسجد وآخر من يخرج منه ولا يفارق بصره شِراكَ نَعلِه) .

ولما لحق الرسول صلوات الله وسلامه عليه بالرفيق الأعلى حزن عليه أبو سفيان بنُ الحارث حُزن الأم على وحيدها وبكاه بكاءَ الحبيب على حبيبه ورثاه بقصيدة من غُرَرِ المراثي تفيضُ لوعةً وشجوناً وتذوب حسرةً وأنيناً ، فقال :

أرقت فبات ليلي لا يزول … وليل أخي المصيبة فيه طول

وأسعدني البكاء وذاك فيما … أصيب المسلمون به قليل

لقد عظمت مصيبتنا وجلّت … عشيّة قيل قد قبض الرسول

وأضحت أرضنا مما عراها … تكاد بنا جوانبها تميل

فقدنا الوحي والتنزيل فينا … يروح به ويغدو جبرئيل

وذاك أحقّ ما سالت عليه … نفوس الناس أو كربت تسيل

نبيّ كان يجلو الشّكّ عنّا … بما يوحى إليه وما يقول

ويهدينا فلا نخش ضلالا … علينا والرسول لنا دليل

أفاطم إن جزعت فذاك عذر … وإن لم تجزعي ذاك السبيل

فقبر أبيك سيد كلّ قبر … وفيه سيد الناس الرسول

وفي خلافة الفاروق رضي الله عنه أَحسَّ أبو سفيان بِدنوِّ أجله فحفر لنفسه قَبرَه بيده ، ولم يمضِ على ذلك غير ثلاثة أيام حتى حضرته الوفاة كأنَّه على الموت على ميعاد فالتفت إلى زوجته وأولاده وأهلِهِ وقال : لا تبكوا عليَّ فوالله ما تعلَّقتُ بخطيئةٍ منذ أسلمت .

ثم فاضت روحه الطاهرة فصلَّى عليه الفاروق رضوان الله عليه وحزِن لفقده هو والصحابةُ الكرام
وعَدُّوا موته رُزءاً (مصيبة أو فاجعة) جلَلاً حَلَّ بالإسلام وأهله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى