قصص وعبر بعنوان حب وتضحية زوج أم!
من أقيم أنواع القصص قصص وعبر، هذه النوعية من القصص ذات قيمة فعالة وأثر فعال على حياتنا.
علينا دوما أن نأخذ بنهج من سبقونا، ونوقن دوما أن هذه الحياة في غاية القصر، لذا علينا قبل انقضاء أعمارنا تحقيق ما يبلغنا غايتنا بالدار الآخرة.
القصـــــــــــــة:
يحكي أحد الشباب والذي حفر اسما خالدا في الجد والاجتهاد والتفوق في مجاله، يحكي على لسانه أجمل قصة من الممكن أن تصادفها طوال حياتك…
لقد عمل زوج والدتي خمسة وعشرين عاما في أعمال الفاعل (أعمال البناء)، وبسببه استطعت مواصلة دراستي ووصلت لأعلى المراتب، وها أنا اليوم أنهيت الدكتوراه، رآه مشرفي في رسالة الدكتوراه وأصابه الذهول حينما رآه أمام عينيه.
ذلك اليوم يوم مناقشة رسالة الدكتوراه، وبعد المناقشة مباشرة جاء الدكتور ليهنئني وعائلتي، وحين وصل إلى زوج والدتي، توقف فجأة ودقق النظر إليه عن قرب، وإذا بملامحه تتغير بالكامل.
إنني ولدت في عائلة غير مكتملة بسبب انفصال والدتي عن والدي، كنت وقتها للتو قد تعلمت أولى خطواتي بالحياة، ما تخلت عني والدتي فأخذتني معها إلى قرية بعيدة في منطقة ريفية فقيرة، كانت مليئة بحقول القصب من حولنا والشمس والرياح وأكثر شيء كانت الثرثرة.
إنني لا أذكر ملامح والدي الحقيقي على الإطلاق، ولكني وعلى الرغم من صغر سني حينها إلا إنني أذكر جيدا أن سنواتي الأولى كانت تفتقر إلى الكثير، تفتقد إلى كل شيء من الناحية المادية والمعنوية.
وعندما بلغت الرابعة من عمري، تزوجت أمي مجددا، كان الرجل يعمل في الفاعل!
وافقت والدتي على الزواج به وحينها قدم إلى حياتها بلا شيء، كان بلا بيت وبلا مال، كل ما أتذكره عنه يومها ظهر نحيل، بشرة محترقة من الشمس، ويدان متشققتان من الإسمنت!
في السنوات الأولى لم أحبه، فلم أختلط به إذ كان يغادر باكرًا ويعود متأخرًا، وعلى الدوام تفوح منه رائحة خليط من العرق وغبار البناء.
ولكنه كان أول من أصلح دراجتي القديمة المتهالكة، وأول من خيط لي حذائي الممزق بصمت، حينما كنت أحدث فوضى، لم يكن يوبخني بل كان ينظف المكان ورائي.
وعندما تعرضت للتنمر في المدرسة، لم يصرخ في وجهي كما كانت تفعل دوما أمي بكوني ضعيفا؛ ولكنه ذهب معي بهدوء بدراجته القديمة ليوصلني للمدرسة، وبعد انتهاء اليوم الدراسي أتاني ليأخذني ولم يقل غير جملة واحدة: “إنني لن أجبرك أن تناديني أبي، ولكن اعلم أنني سأكون دائمًا خلفك في كل وقت تحتاجني فيه”.
لم أكن أتحدث إليه من قبل، ولكن بعد هذا اليوم صرت أناديه عمي، في طفولتي كانت كل ذكرياتي عنه دراجة صدئة، وملابس على الدوام مغطاة بالغبار، وليال يعود فيها متأخرا وعيناه غائرتان من شدة التعب ويداه ملطختين بالجير والمونة مهما حاول إزالتهما.
مهما بلغ إرهاقه، لم ينسى يوما أن يسألني: “كيف كان يومك في المدرسة؟:
على الرغم من كونه لم يكن متعلمًا تعليمًا عاليًا، لم يستطع يوما شرح المعادلات الصعبة أو حتى النصوص المعقدة، ولكنه كان دوما يردد على مسامعي: “قد لا تكون الأول في الصف، ولكن عليك أن تجتهد وتبذل قصارى جهدك أينما ذهبت وأينما وجدت، عليك أن تعلم أنه سيحترمك الناس بعلمك”.
لقد كانت أمي فلاحة، وزوج أمي عامل بناء باليومية، كنا نعيش بدخل ضئيل للغاية، كنت طالبًا مجتهدًا بدراستي، ولكنني فهمت وضعنا الحقيقي، فلم أجرؤ على الحلم الكبير.
حين اجتزت امتحان القبول بجامعة الأزهر، بكت أمي كثيرا؛ بينما جلس زوج أمي على الشرفة، وكأنه يفكر في أمر جلل، علمته باليوم التالي حين باع دراجته النارية الوحيدة، ليتمكن من إرسالي إلى الجامعة.
يوم أوصلني إلى المدينة الجامعية، كان يحمل ثقلا على ظهره مؤن الشهر كاملة من خبز وعسل أسود وجبن قديم وكشك، كان مظهره بسيطا للغاية، وقبل أن يغادر نظر إلي وقال: “ابذل أقصى جهدك يا ولدي، ادرس جيدا واستنير بنور العلم”.
لم أبكي يومها، ولكن حين فتحت ما كان يحمله وجدت أسفل الطعام ورقة صغيرة مطوية أربع مرات، مكتوب فيها: “إن أباك لا يفهم ما تدرسه، لكن أيًا كان ما تدرسه، فأباك سيعمل لأجله، فلا تقلق”.
حينها بكيت كثيرا، درست أربع سنوات في الجامعة، ثم واصلت الدراسات العليا؛ ومع استمراري استمر زوج والدتي في العمل، صارت يداه أكثر خشونة، وظهره أكثر انحناء، وعندما عدت يومًا للزيارة، رأيته جالسًا عند باب البيت، يلهث بعد يوم شاق من رفع الأحمال، فانكسر قلبي. فطلبت منه أن يرتاح، ولكنه لوح بيده قائلا: “إنني ما زلت قادرا على العمل، حين أشعر بالتعب أفكر نفسي قائلا أنا أُربي دكتورا فأشعر حينها بالفخر فأجتهد أكثر”.
ابتسمت يومها، ولم أجرؤ على إخباره أن الدكتوراه تعني سنوات أطول من التضحية ومزيد من العمل الشاق، لكنه كان السبب الحقيقي الذي جعلني لا أستسلم أبدًا.
في يوم مناقشة رسالتي للدكتوراه في كلية الزراعة جامعة الأزهر ، توسلت إليه كثيرا ليحضر معي حتى وافق على الحضور، استعار بدلة من ابن عمه، واستعار حذاءً أضيق من مقاسه بدرجة وجلس في الصف الأخير من القاعة كانت السعادة مرسومة على وجهه، كان يحاول الجلوس باستقامة، وكانت عيناه مثبتتان علي وحسب.
بعد المناقشة وانتهائها، جاء الدكتور ليهنئ عائلتي، وعندما وصل إليه، توقف فجأة، ودقق في النظر إليه عن قرب، وابتسم قائلا: “أتتذكرني؟!، لقد كان منزلي بجوار موقع عمارة تحت الإنشاء، جرى حادث يومها يوم أن حملتَ زميلك المصاب من على السقالة، رغم أنك كنت مجروحًا أنت أيضًا مثله، لقد أنقذت حياة زميلك يومها، ذلك الرجل كان عمي”!
ساد الصمت لوهلة بالقاعة، ولحظةً واحدة، تلاشت الألقاب والشهادات والدرجات. لم يكن في صدارة المشهد أنا، ولكن كان زوج والدتي الذي حملني ليس على كتفيه وحسب، بل على تضحياته لسنوات طوال.
شهادة الدكتوراه قد تحمل اسمي، ولكن كل حرف فيها منقوش بعرق سال من جبينه وبكده، وبالشقوق التي حفرت في كفيه، وبالليالي التي عاد فيها مرهقًا ومع ذلك كان يسألني: “كيف كان يومك في المدرسة؟”
إن الآباء الحقيقيين لا يُعرفون بالدم، بل بالحب.
اقرأ مزيدا من قصص وعبر من خلال:
قصص وعبر من الحياة مشوقة ومفيدة جداً دروس عظيمة في أسطر قليلة