قصص دينيةقصص وعبر

قصة حذيفة بن اليمان

اليوم بإذن الله نكمل معكم قصص الأبطال ومسلسل الأساطير وسير الأعلام النبلاء ، مع رجل خير بين أن يكون من الأنصار أو من المهاجرين ، مع صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى قال عنه ( ما حدثكم حذيفة فصدقوه ) مع الصحابى الجليل حذيفة بن اليمان رضى الله عنه .

قصة حذيفة بن اليمان
قصة حذيفة بن اليمان

(إن شئت كنت من المهاجرين وإن شئت كنت من الأنصار ، فاختر أحب الأمرين إلى نفسك) بهذه الكلمات خاطب الرسول عليه الصلاة والسلام حذيفة بن اليمان حين لقيه أول مرة في مكة ولتخيير حُذيفة بن اليمان في الانتماء إلى أكرم فئتين وأحبهما إلى المسلمين قصة .

فاليمان أبو حُذيفة مكي من بني عبس لكنه أصاب دما في قومه فاضطر إلى النزوح عن مكة إلى يثرب وهناك حالف بني عبد الأشهل وصاهرهم وولد له ابنه حُذيفة ، ثم زالت الموانع التي تحول دون اليمان ودون دخول مكة فجعل يتردد بينها وبين يثرب ولكن إقامته كانت في المدينة أكثر وألصق .

ولما أهلَّ الإسلام بنوره على جزيرة العرب كان اليمان أبو حُذيفة أحد عشرة من بني عبس وفدوا على رسول الله صلوات الله عليه وأعلنوا إسلامهم بين يديه وذلك قبل أن يهاجر إلى المدينة ومن هنا كان حُذيفة مكي الأصل مدني النشأة .

نشأ حُذيفة في بيت مسلم ورُبِّيَ في كنف أبوين من السابقين إلى الدخول في دين الله , فأسلم قبل أن تكتحل عيناه بمرأى رسول الله صلوات الله عليه وسلامه ، كان شوق حُذيفة إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم يملأ جوانحه فما زال منذ أسلم وهو يتسقط (يتتبع) أخباره ويلح في السؤال عن أوصافه فرحل إلى مكة ليلقاه فما إن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حتى سأله : أمهاجر أنا أم أنصاري يا رسول الله ؟ فقال عليه السلام : ( إن شئت كنت من المهاجرين وإن شئت كنت من الأنصار ، فاختر لنفسك ما تحب ) فقال : بل أنصاري يا رسول الله .

ولما هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة لازمه حُذيفة ملازمة العين لأختها وشهد معه المواقع كلها إلا بدرا ولِتخلف حذيفة عن بدرٍ قصة رواها بنفسه فقال : ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني كنت خارج المدينة أنا وأبي فأخذنا كفار قريش فقالوا : أين تقصدون ؟ فقلنا : المدينة فقالوا : إنكم تريدون محمداً فقلنا : ما نريد إلا المدينة فأبوا أن يطلقونا إلا بعد أن أخذوا العهد علينا ألا ننصر محمداً عليهم وألا نقاتل معه ، ثم أطلقوا سراحنا .

ولما قدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بما قطعناه من عهدٍ لقريش وسألناه ماذا نصنع ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : (نَفي بعهدهم ونستعينُ عليهم بالله) ولما كانت أُحد خاضها حُذيفة مع أبيه اليمان أما حُذيفة فأبلى فيها أعظم البلاء وأكرمه وخرج منها سالماً وأما أبوه فقد أُستشهد فيها ولكن استشهاده كان بسيوف المسلمين ولذلك قصة نوردها فيما يلي .

لما كان يوم أُحد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمان وثابت بن وقش في الحصون مع النساء والصبيان لأنهما كانا شيخين كبيرين طاعنين في السن ، فلما حميَ وطيس المعركة ، قال اليمان لصاحبه : لا أبا لك ماذا ننتظر ؟ فوالله ما بَقيَ لواحد منا من عمره إلا بمقدار ما يظمأُ الحمار  إنما نحن هامة (كناية عن أنهم يموتون قريباً) اليوم أو غد أفلا نأخذ سيفنا ونلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة مع نبيهِ .

ثم أخذا سيفهما ودخلا في الناس واقتحما المعركة ، أما ثابت بن وقش فأكرمه الله بالشهادة على أيدي المشركين وأما اليمان والد حذيفة فتعاورته (تداولته وتتابعت عليه) سيوف المسلمين وهم لا يعرفونه وجعل حُذيفةَ يُنادي : أبي ، أبي فلا يسمعه أحد ، وخرَّ الشيخ صريعاً بأسياف أصحابه ، فما زاد حُذيفة على أن قال لهم : يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين .

ثم أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطي الإبن دِيَةَ أبيه فقال حذيفة : إنما هو طالبُ شهادةٍ وقد نالها اللهم أشهد أني تصدقت بِديَتهِ على المسلمين فازداد بذلك منزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سبر (نفذ إلى أعماقه واختبره) الرسول صلوات الله وسلامه عليه غَورَ حذيفة بن اليمان فتجلت له فيه خِلالٌ ثلاث : ذكاء فذ يُسعفهُ في حل المعضلات وبديهة مطاوعة تُلبيه كلما دعاها وكتمان للسر فلا ينفذُ إلى غورِهِ أحد .

وكانت سياسة الرسول عليه الصلاة والسلام تقوم على اكتشاف مزايا أصحابه والإفادة من طاقتهم الكامنةِ في ذواتهم , وذلك بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، وكانت أكبر مشكلة تواجه المسلمين في المدينة هي وجود المنافقين من اليهود وأشياعِهِم وما يَحيكونه للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه من مكائد ودسائس .

فأفضى (أسر إليه وخبّره) النبي صلوات الله عليه لحذيفة بن اليمان بأسماء المنافقين وهو سِر لم يُطلع عليه أحداً من أصحابه وعَهِدَ إليه برصد حركاتهم وتتبع نشاطهم ودرء خطرهم عن الإسلام والمسلمين ، ومنذ ذلك اليوم دُعيَ حذيفة ابن اليمان (بصاحب سِرِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) .

وقد استعان الرسول عليه الصلاة والسلام بمواهب حذيفة في موقف من أشد المواقف خطراً وأحوجها إلى الذكاء الفذ والبديهة المطاوعة ، وذلك في ذُروةِ غزوة الخندق حيث كان المسلمون قد أحاط بهم العدو من فوقهم ومن تحتهم وطال عليهم الحِصار واشتد عليهم البلاءُ وبلغ منهم الجهد والضنك كُلَّ مبلغ حتى زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وأخذ بعض المسلمين يظنون بالله الظنون .

ولم تكن قريش وأحلافها من المشركين في هذه الساعات الحاسمات بأحسَنَ حالاً من المُسلمين فقد صبَّ عليها الله عز وجل من غضبه ما أوهَنَ قواها وزلزل عزائمها فأرسل عليها ريحاً صرصراً تَقلِب خيامها وتكفأ (تقلب) قُدورها وتُطفىء نيرانها وتَقذف وجوهها بالحصباء وتَسُدُّ عيونها وخياشيمَها بالتراب .

في هذه المواقف الحاسمة من تاريخ الحروب يكونُ الفريق الخاسر هو الذي يئِنُّ أولاً ويكونُ الفريق الرابح هو الذي يضبطُ نفسه طَرفَةَ عينٍ بعد صاحبه وفي هذه اللحظات التي تُكتب فيها مصائر المعارك يكون لاستخبارات الجيوش الفضلُ الأول في تقدير الموقف وإسداء المشورة ، ومن هنا احتاج الرسول عليه الصلاة والسلام لطاقات حذيفة ابن اليمان وخبراته وَعَزَمَ على أن يبعث به إلى قلب جيش العدو تحت جُنحِ الظلام ليأتيه بأخبارِه قبل أن يُبرم (يتخذ) أمراً فلنترك لحُذيفة الكلام لِيُحدثنا عن رحلة الموت هذه .

قال حُذيفة : كنا في تلك الليلة صافِّين قُعوداً وأبو سفيان ومن معه من مشركي مكة فوقنا وبنو قريظة من اليهود أسفل مِنّا نخافُهُم على نسائنا وَذرارينا ، وما أتت علينا قط أشدُّ ظلمةً ولا أقوى ريحاً منها فأصوات ريحها مثل الصواعق وشدة ظلامها تجعل أحدنا لا يرى إصبَعَهُ .

فأخذ المنافقون يستأذنون الرسول عليه الصلاة والسلام ويقولون : إن بُيوتنا مكشوفةٌ للعدوِّ وما هي بمكشوفة فما يستأذنهُ أحد منهم إلا أذِن له وهم يتسللون حتى بقينا في ثلاثمائةٍ أو نحو ذلك عند ذلك قام النبي عليه الصلاة والسلام وجَعَلَ يمرُّ بنا واحداً واحداً حتى أتى إليَّ وما عليَّ شيءٌ يقيني من البرد إلا مِرطٌ (كل ثوب غير مخيط من مئزر ونحوه)  لامرأتي ما يُجاوز رُكبتي .

فاقترب مني وأنا جاثٍ على الأرض ، وقال : من هذا ؟ فقلت : حٌذيفة ، قال : حُذيفة فتقاصرت إلى الأرض كراهية أن أقوم من شدة الجوع والبرد وقلت : نعم يا رسول الله ، فقال : إنه كائنٌ في القوم خبرٌ فَتَسَلَّل إلى عسكرهم وأتني بخبرهم ، فخرجت وأنا من أشد الناس فزعاً وأكثرِهِم برداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته) فوالله ما تمت دعوة النبي عليه السلام حتى انتزع الله من جوفي كل ما أودعه فيه من خوف وأزال عن جسدي كُلَّ ما أصابه من برد .

فلمَّا وَلّيت ناداني عليه الصلاة والسلام وقال : يا حذيفة لا تُحدثن (تفعلن) في القوم شيئاً حتى تأتِيَني فقلت : نعم ومضيت أتسلل في جنح الظلام حتى دخلت في جند المشركين وصِرت كأني واحدٌ منهم ، وما هو إلا قليل حتى قام أبو سفيان فيهم خطيباً وقال : يا معشر قريش إني قائل لكم قولا أخشى أن يبلغ محمداً فلينظر كل رجل منكم من جليسُهُ فما كان مني إلا أن أخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي وقلت : من أنت ؟ فقال : فلان ابن فلان.

وهنا قال أبو سفيان : يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدارِ قرارٍ ، لقد هلكت رواحلنا وتخلت عنا بنو قريظة ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا إني مرتحل ، ثم قام إلى جملِهِ فَفَكَّ عقاله وجلس عليه ثم ضربه فوثب قائماً ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أُحدث شيئاً حتى آتيه لقتلتُه بسهم .

عند ذلك رجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فوجدته قائماً يُصلي في مربط لبعض نسائه ، فلما رآني أدناني إلى رِجليه وَطَرحَ عليَّ طرف المربط فأخبرته الخبر فسُرَّ به سروراً شديداً وحمِد الله وأثنى عليه .

ظل حذيفة بن اليمان مؤتمِناً على أسرار المنافقين ما امتدت به الحياة وظل الخلفاء يرجعون إليه في أمرهم ، حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا مات أحد المسلمين يسأل : أَحَضَرَ حذيفة للصلاة عليه ، فإن قالوا : نعم ، صلى عليه وإن قالوا : لا ، شك فيه وأمسك عن الصلاة عليه .

وقد سأله ذات مره : أفي عمالي أحدٌ من المنافقين ، فقال حذيفة : واحد ، فقال : دُلني عليه ، فقال لا أفعل ، فقال حذيفة لكن عُمر ما لبث أن عزله كأنما هُدي إليه ، ولعل قليلا من الناس من يعلم أن حذيفة بن اليمان فتح للمسلمين (نهاوند) و( الدّينور) و (همذان) و (الرّي) وكان سبباً في جمع المسلمين على مصحف واحد بعد أن كادوا يفترقون في كتاب الله .

وعلى الرغم من ذلك كله كان حذيفة بن اليمان شديد الخوف على نفسه من الله عظيم الخشية من عقابة فهو حين ثَقُلَ عليه مرض الموت جاءه بعض الصحابة في جوف الليل ، فقال : أيُّ ساعة ٍ هذه ، فقالوا : نحن قريب من الصبح ، فقال : أعوذ بالله من صباح يُفضي (يوصلني) بي إلى النار ، أعوذ بالله من صباح يُفضي بي إلى النار .

ثم قال : أجئتم بكفن قالوا : نعم ، قال : لا تٌغالوا بالأكفان فإن يكن لي عند الله خيرٌ بُدِّلت به خيراً وإن كانت الأخرى سُلب مني ، ثم جعل يقول : اللهم إنك تعلم أني كنتُ أحِبٌّ الفقر على الغنى وأحِبُّ الذلة على العزة وأحِبُّ الموت على الحياة .

ثم قال وروحه تفيض : حبيب جاء إلى شوق لا أفلح من نَدِم ، رحم الله حذيفة بن اليمان فقد كان طرازاً فريداً من الناس .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى