قصص دينيةقصص وعبر

قصة أبو عبيدة بن الجراح

اليوم بمشيئة نسرد إليكم  قصة أمين تكفى هذه الكلمة رجل قل أن تجد له نظير قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لكل أمة أمين ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ) يا لها من شهادة من خير الناس ورسول البشرية ويا له من شرف لهذا الرجل مع الصحابى الجليل أبو عبيدة بن الجراح رضى الله عنه .

قصة أبو عبيدة بن الجراح
قصة أبو عبيدة بن الجراح

كان وضىء الوجه بهى الطلعة نحيل الجسم طويل القامة خفيف العارضين ترتاح العين لمرآه وتأنس النفس للقياه ويطمئن إليه الفؤاد وكان إلى ذلك رقيق الحاشية جم التواضع شديد الحياء ، لكنه كان إذا حزب الأمر وجد الجد يغدو كأنه الليث عاديا ، فهو يشبه نصل السيف رونقا وبهاء ويحكيه حدة ومضاء .

ذلكم هو أمين أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، عامر بن عبد الله بن الجراح الفهرى القرشى المُكًّنى بأبى عبيدة ، نعته عبد الله بن عمر رضى الله عنهما فقال : ثلاثة فى قريش أصبح الناس وجوها وأحسنها أخلاقا وأثبتها حياء إن حدثوك لم يَكذبوك وإن حدثتهم لم يُكِذبوك : أبو بكر الصديق وعثمان بن عفان وأبو عبيدة بن الجراح .

كان أبو عبيدة من السابقين الاولين إلى الإسلام ، فقد أسلم فى اليوم التالى لإسلام أبى بكر وكان إسلامه على يد الصديق نفسه ، فمضى به وبعبد الرحمن بن عوف وبعثمان بن مظعون وبالأرقم بن أبى الأرقم إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأعلنوا بين يديه كلمة الحق ، فكانوا القواعد الأولى التى بنى عليها صرح الإسلام العظيم .

عاش أبو عبيدة تجربة المسلمين القاسية فى مكة منذ بدايتها إلى نهايتها وعانى مع المسلمين من عنفها وضراوتها وآلامها وأحزانها ما لم يعانه أتباع دين على ظهر الأرض ، فثبت للإبتلاء وصدق الله ورسوله فى كل موقف ، لكن محنة أبى عبيدة يوم بدر فاقت فى عنفها حسبان الحاسبين وتجاوزت خيال المتخيلين .

انطلق أبو عبيدة يوم بدر يصول بين الصفوف صولة من لا يهاب الردى فهابه المشركون ويجول جولة من لا يحذر الموت فحذره فرسان قريش وجعلوا يتنحون عنه كلما واجهوه ، لكن رجلا واحدا منهم جعل يبرز لأبى عبيدة فى كل اتجاه فكان أبو عبيدة يتحرف عن طريقه ويتحاشى لقائه .

ولج الرجل فى الهجوم وأكثر أبو عبيدة من التنحى وسد الرجل على أبى عبيدة المسالك ووقف حائلا بينه وبين قتال أعداء الله ، فلما ضاق به ذرعا ضرب رأسه بالسيف ضربة فلقت هامته نصفين فخر الرجل صريعا بين يديه ، لا تحاول أيها القارىء الكريم من يكون الرجل الصريع ، أما قلت لك : إن عنف التجربة فاق حسبان الحاسبين وجاوز خيال المتخيلين .

ولقد يتصدع رأسك إذا عرفت أن الرجل الصريع هو عبد الله بن الجراح والد أبى عبيدة ، لم يقتل أبو عبيدة أباه وإنما قتل الشرك فى شخص أبيه ، فأنزل الله سبحانه فى شأن أبو عبيدة وشأن أبيه قرآنا فقال علت كلمته : (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

لم يكن ذلك عجيبا من أبى عبيدة فقد بلغ من قوة إيمانه بالله ونصحه لدينه والأمانة على أمة محمد مبلغا طمحت إليه نفوس كبيرة عند الله ، حدث محمد بن جعفر قال : قدم وفد من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم ابعث معنا رجلا من الصحابة ترضاه لنا ليحكم بيننا فى أشياء من أموالنا اختلفنا فيها فإنكم عندنا معشر المسلمين مرضيون .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ائتونى العشية أبعث معكم القوى الأمين ) ، فقال عمر بن الخطاب : فرحت إلى صلاة الظهر مبكرا وإنى ما أحببت الإمارة حبى إياها يومئذ رجاء أن أكون صاحب هذا النعت ، فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر جعل ينظر عن يمينه وعن يساره فجعلت أتطاول له ليرانى ، فلم يزل يقلب بصره فينا حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح ، فدعاه فقال : ( اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه ) ، فقلت : ذهب بها أبو عبيدة .

ولم يكن أبو عبيدة أمينا فحسب وإنما كان يجمع القوة إلى الأمانة وقد برزت هذه القوة فى أكثر من موطن : برزت يوم بعث الرسول صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه ليلقوا عيرا لقريش وأمر عليهم أبا عبيدة رضى الله عنهم وعنه وزودهم جرابا من تمر لم يجد لهم غيره .

فكان أبو عبيدة يعطى الرجل من أصحابه كل يوم تمرة فيمصها الواحد منهم كما يمص الصبى ضرع أمه ثم يشرب عليها ماء فكانت تكفيه يومه إلى الليل ، وفى يوم أحد حين هزم المسلمون وطفق صائح المشركين ينادى : دلونى على محمد دلونى على محمد ، كان أبو عبيدة أحد النفر العشرة الذين أحاطوا بالرسول صلى الله عليه وسلم ليذودوا عنه بصدورهم رماح المشركين .

فلما انتهت المعركة كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد كسرت رباعيته وشج جبينه وغارت فى وجنتيه حلقتان من حلق درعه فأقبل عليه الصديق يريد انتزاعها من وجنته فقال له أبو عبيدة : أقسم عليك أن تترك ذلك لى فتركه فخشى أبو عبيدة إن اقتلعهما بيده أن يؤلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعض على أولاهما بثنيته عضا قويا محكما فاستخرجهما ووقعت ثنيتاه ثم عض على الأخرى بثنيته الثانية فاقتلعهما فسقطت ثنيته الأخرى ، قال أبو بكر : ( فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتما ) .

لقد شهد أبو عبيدة مع رسول الله صلوات الله عليه المشاهد كلها منذ صحبه إلى أن وافاه اليقين ، فلما كان يوم الثقيفة قال عمربن الخطاب لأبى عبيدة : ابسط يدك أبايعك فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن لكل أمة أمينا وأنت أمين هذه الأمة ) ، فقال أبو عبيدة :ما كنت لأتقدم بين يدى رجل أمره رسول الله أن يؤمنا فى الصلاة فأمنا حتى مات .

ثم بويع بعد ذلك لأبى بكر الصديق ، فكان أبو عبيدة غير نصيح له فى الحق وأكرم معوان له على الخير ، ثم عهد أبو بكر بالخلافة من بعده إلى الفاروق فدان أو عبيدة له بالطاعة ولم يعصه فى أمر إلا مرة واحدة ، فهل تدرى ما الأمر الذى عصى فيه أبو عبيدة أمر خليفة المسلمين .

لقد وقع ذلك حين كان أبو عبيدة بن الجراح فى بلاد الشام يقود جيوش المسلمين من نصر إلى نصر حتى فتح الله على يديه الديار الشامية كلها ، فبلغ الفرات شرقا وآسيا الصغرى شمالا ، عند ذلك دهم بلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قط  فجعل يحصد الناس حصدا .

فما كان من عمر بن الخطاب إلا أن وجه رسولا إلى أبى عبيدة برسالة يقول فيها : إنى بدت لى إليك حاجة لا غنى لى عنك فيها فإن أتاك كتابى ليلا فإنى أعزم عليك ألا تصبح حتى تركب إلى وإن أتاك نهارا فإنى أعزم عليك ألا تمسى حتى تركب إلى .

فلما أخذ أبو عبيدة كتاب الفاروق قال : قد علمت حاجة أمير المؤمنين إلى ، فهو يريد أن يستبقى من ليس بباق ثم كتب إليه يقول : يا أمير المؤمنين إنى قد عرفت حاجتك إلى وإنى فى جند من المسلمين ولا أجد بنفسى رغبة عن الذين يصيبهم ولا أريد فراقهم حتى يقضى الله فى وفيهم أمره ، فإذا أتاك كتابى هذا فحللنى من عزمك وائذن لى بالبقاء .

فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضت عيناه فقال له من عنده لشدة ما رأوه من بكائه : أمات أبو عبيدة يا أمير المؤمنين ؟ فقال : لا ، ولكن الموت منه قريب ، ولم يكذب ظن الفاروق إذ ما لبث أبو عبيدة أن أصيب بالطاعون ، فلما حضرته الوفاة أوصى جنده .

فقال : إنى موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا شهر رمضان وتصدقوا وحجوا واعتمروا وتواصوا وانصحوا لأمرائكم ولا تغشوهم ولا تلهكم الدنيا فإن المرء لو عمر ألف حولٍ ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعى هذا الذى ترون ، إن الله كتب الموت على بنى آدم فهم ميتون وأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده ، والسلام عليكم ورحمة الله .

ثم التفت إلى معاذ بن جبل وقال : يا معاذ صلِ بالناس  ، ثم ما لبث أن فاضت روحه الطاهرة ، فقام معاذ وقال : أيها الناس إنكم قد فجعتم برجل والله ما أعلم أنى رأيت رجلا أبر صدرا ولا أبعد غائلة أى شر ، ولا أشد حبا للعاقبة ولا أنصح للعامة منه فترحموا عليه يرحمكم الله .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى