قصص دينيةقصص وعبر

قصة عمير بن سعد فى كبره

اليوم بمشيئة الله نكمل معكم قصص الأبطال ومسلسل الأساطير مع الجزء الثانى من قصة عمير بن سعد ولكن هذه المرة فى كبره ، قال فيه عمر بن الخطاب ( وَدِدْتُ أنَّ لي رجالاً مِثْلَ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ أسْتَعينُ بهم في أعمالِ المسلمين ) مع الصحابى الجليل عمير بن سعد رضى الله عنه .

قصة عمير بن سعد فى كبره
قصة عمير بن سعد فى كبره

وَقَفْنَا آنِفاً على صورة فذَّةِ وَضيئَةٍ من حياةِ الصحابيّ الجليلِ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ في صِغَرِه ، فَتَعالَوا نَقِف الآن على صورة رائعة مشرقةٍ من حَيَاتِه في كِبَرِه ، وسَتَجِدون أن الصورةَ الثانيةَ لن تقل عن الأولى جلالا وبهاءً .

كان أهلُ حِمْصَ شديدي التذَمّرِ مِنْ وُلاتهم كثيري الشَّكْوى منهم فما جاءهم من وال إلا وجدوا فيه عيوباً وأحْصَوْا له ذُنُوباَ و رَفَعوا أمْرَه إلى خليفةِ المسلمين وتَمَنَّوا عليه أن يُبْدِلَهُمْ به من هو خيرٌ منه ، فَعزَمَ الفاروقُ رِضْوانُ اللّهِ عليه أن يَبْعَثَ إليهم بوالٍ لا يجدون فيه مَطْعناً ولا يَرَوْنَ في سيرَتِه مَغْمَزاً (عيبا) فَنَثَرَ كِنَانَةَرجاله بَيْنَ يَدَيْه وعَجَمَ (اختبرها) عِيدانها عوداً عوداً .

فلم يجد خيراً من عُمَيْرِ بن سعدِ على الرَّغمِ مِنْ أنَّ عُمَيْراً كان إذ ذاك يَضْرِبُ (يغزو) في أرضِ الجزيرَة من بلاد الشَّـامِ على رَأسِ جَيْشِه الغازي في سبيل اللّهِ فَيُحرِّرُ المُدُنَ وَيَدُكُّ المعاقلَ ويُخْضِعُ القبائِلَ ويقيم المساجِدَ في كلِّ أرْض وَطِئَتْها قَدَمَاه ، على الرَّغْمِ مِن ذلك فقد دعاه أميرُ المؤمنين وعَهِدَ إليه بولايةِ حمص وأمَرَه بالتَّوَجُّهِ إليها فاذْعَنَ للأمْرِ على كُرْهٍ مِنْه لأنه كانَ لا يًؤثِرُ شيئاً على الجهاد في سبيلِ اللّهِ .

بَلَغ عُمَيْرٌ حِمْصَ فدعا النَّاسَ إلى صلاةٍ جامِعَةٍ ولما قُضِيَتِ الصَّلاةُ خَطَبَ النَّاسَ فَحِمَدَ اللّهَ وأثنَى عليه وصلى على نَبِيِّه محمد ثم قال : (أيها الناسُ إنَّ الإسْلامَ حِصنٌ مَنِيعٌ وباث وَثِيقٌ وحِصْنُ الإسلامِ العَدْلُ وبابُه الحَقُّ فإذا دُكَّ الحِصْنُ وحُطِّمَ البابُ اسْتُبيحَ حِمَى هذا الدِّينِ وإنَّ الإسْلامَ ما يزالُ مَنيعاً ما اشْتَدَّ السُّلْطان ولَيْسَتْ شِدَّةُ السُّلطانِ ضرباً بالسَّوْط ولا خَملاً بالسَّيفِ ولكِنْ قَضَاءً بالعَدْلَ وأخْذاً بالحَقِّ) ثم انْصرَفَ إلى عَمَلِه لِيُنَفِّذَ ما اختطه لهم من دستور في خطبته القصيرَةِ .

قَضَى عُمَيْرُ بن سَعْدٍ حَوْلاً كامِلاً في حِمْصَ لم يَكْتُبْ خِلاله لأمير المؤمنين كِتاباً ولمْ يَبْعَثْ إلى بيتِ مالِ المُسْلمينَ من الفَيءِ (الخراج) دِرْهماً ولا ديناراً ، فأخَذَتِ الشُّكُوكُ تساور عُمَرَ إذْ كانَ شديدَ الخَشْيَةِ على وُلاتِه من فِتْنَةِ الإمارَة ، فلا مَعْصومَ عِنْدَهُ غَيْرُ رسولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم .

فقال لِكَـاتِبِه : اكْتُبْ إلى عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ وقُلْ له : إذا جاءَكَ كِتابُ أمِيرِ المؤمنين فَدَع حِمْصَ وأقْبِلْ عليه واحْمِلْ مَعَكَ ما جَبَيْتَ مِنْ فَيءِ المسلمين ، تلقَّى عُمَيْرُ بنُ سَعْدٍ كتاب عُمَرَ رضى اللّه عنـه وعن عمير ، فأخَذَ جِرَابَ زاده وَحَمَلَ على عاتِقِه قَصعَتَه ووعاءَ وضوئه وأمْسَك بيده حَرْبَتَه وخَلَّف حِمْصَ وإمارتها وراءه وانْطَلَقَ يَحُثُّ الخطا مشياً على قَدَمَيه إلى المدينة فما كادَ يَبْلُغ عمَيرٌ المدينةَ حتى كان قد شحَبَ لونُه وهزُل جِسْمُه وطال شَعْرُه وظَهَرَتْ عليه وعَثْاءُ(أثار مشقة) السَّفَرِ .

دَخَلَ عُمَيْرٌ على أميرِ المؤمنين عُمَرَ بنِ الخَطابِ ، فَدُهِشَ الفاروق من حالَتِه وقال : ما بكَ يا عُمَيْر؟ فقال : ما بي من شيءٍ يا أمير المؤمنين فأنا صَحيحٌ مُعافًى بحمد اللّه أحْمِلُ معي الدنيا كُلَّها وأجُرُّها من قَرْنَيْها ، فقال : وما معك من الدنيا؟ (وهو يَظُنُّ أنَه يحْمِلُ مالاً لِبـيْتِ مالِ المُسْلِمين) .

فقال : معي جِرابي وقد وضعت فيه زادي ومعي قصعتي آكلُ فيها وأغْسِلُ عليها رَأسي وثيابي ومعي قِربَة لِوُضوئي وشرابي ، ثم إنَّ الدنيا كُلَّها يا أميرَ المؤمنين تَبَعٌ لمتاعي هذا وفُضلةٌ لا حاجَةَ لي ولا لأحد غيري فيها ، فقال عمر : وهل جئت ماشياً؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، فقال : أما اُعطيتَ من الإمارة دابَّةً تركَبُها؟ فقال : هم لم يعطوني وأنا لم أطلب منهم .

فقال : وأينَ ما أتُيْتَ بهِ لِبَيْتِ المالِ؟ فقال : لم آتِ بِشيءٍ ، فقال : ولم؟ فقال : لما وَصَلْتُ إلى حِمْصَ؟ جَمعْتُ صلحاء أهلها ووليتم جمْعَ فَيْئهم ، فكانوا كُلما جمعوا شيئاً منه؟ استشَرْتُهم في أمره ووضعته في مواضعه وأنفقتُه على المُستَحِقِّين منهم .

فقال عمر لكاتبه : جَدِّد عهداً لِعُمَير على وِلايةِ حِمْص فقال عمير : هيهات فإن ذلك شَيء لا أريده ولَن أعْمَلَ لَكَ ولا لأحدٍ بَعْدَكَ يا أميرَ المؤمنين ، ثم استأذَنَهُ بالذَّهاب إلى قَرْيَةٍ في ضواحي المدينَةِ يُقيم بِها أهْلُه فأذنَ له ، لم يَمْضِ على ذهاب عُمَيْرٍ إلى قَرْيَته وقتٌ طويل حتى أراد عُمَرُ أنْ يَختَبِرَ صاحبه وأن يَسْتَوثقَ من أمْرِه ، فقال لواحدٍ من ثِقَاتِه يدعى الحارثَ : انطلق يا حارثُ إلى عُمَيْرِ بنِ سعد وانْزِل به كأنّكَ ضَيْف فإن رَأيتَ عليه آثارَ نِعْمَةٍ ؟ فَعدْ كما أتيت وإن وَجدْتَ حالاً شديدَةً فأعطِه هذه الدنانير وناوَله صُرِّة فيها مائة دينارٍ .

انطلق الحارثُ حتى بلغ قريةَ عُمَيْرِ بن سَعْدٍ ، فَسَأل عنه فَدُلَّ عليه فلمَّا لقيه قال : السلامُ عليك ورحمة الله فقال : وعليك السلامُ ورحمةُ اللّه وبرَكاته من أين قَدمت؟ فقال : من المدينة ، فقال: كيفَ تَرَكتَ المسلمين؟ فقال : بِخَيْر فقال : كيف أميرُ المؤمِنين؟ فقال: صَحِيح صالِحٌ فقال : أليس يُقيمُ الحدود؟ قال : بلى ، ولَقَدْ ضَرَبَ ابناً له لِفاحِشَةٍ أتاها فقال عمير : اللَّهمَّ أعِنْ عُمَرَ فإني لا أعْلَمُه إلا شديدَ الحُبِّ لك .

أقام الحارِثُ في ضيافَةِ عُمَيْرِ بنِ سعدٍ ثلاثَ لَيال فكانَ يُخْرِجُ له في كلِّ لَيْلَةٍ قُرْصاً من الشعير ، فَلَمَّا كانَ اليومُ الثالِثُ قال للحارِثِ رَجُل من القوم : لقد أجْهَدْتَ عُمَيْراً وأهله؟ فَلَيْسَ لهم إلا هذا القُرْصُ الذي يُؤثِرونك به على أنفُسِهِمْ وقد أضرَّ بهمُ الجوعُ والجَهْدُ فإنْ رأيت أن تتحوَّلَ عَنْهُم إليَّ فافْعَلْ .

عند ذلكَ أخرَجَ الحارِثُ الدَّنانيَر ودَفَعها إلى عمَيْر فقال عُمَيْر : ما هذه؟ فقال الحارِثُ : بَعَثَ بِها إليكَ أميرُ المؤمنين فقال : رُدَّها إليه واقْرَأ عليه السَّلامَ وقُل له : لا حاجَةَ لِعُمَيْرٍ بها ، فصاحَتْ امرأته وكانَتْ تَسْمَعُ ما يدور بينَ زَوجِها وضيفِه وقالت : خُذْها يا عُمَيْرُ فإن احتَجْتَ إليها أنفقتَها وإلا وضعْتَها في مَوَاضِعِها فالمحتَاجُون هنا كثير .

فلما سَمِعَ الحارِث قَوْلَها ، ألْقَى الدَّنانيرَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَيْر وانْصرَف ، فأخَذَها عمير وجَعَلَها في صُرَرٍ صغيرةٍ ولم يَبِتْ لَيْلَتَه تِلْكَ إلا بَعْدَ أن وزَّعها بَيْنَ ذوِي الحاجاتِ وخَصَّ مِنْهُمْ أبناءَ الشُّهداءِ ، عاد الحارِثُ إلى المدينةِ فقال له عمرُ : ما رأيتَ يا حارِثُ؟ فقال : حالاً شديدَةً يا أميرَ المؤمنين ، فقال : أدَفَعْتَ إليه الدنانير ، فقال : نعم يا أمير المؤمنين ، فقال : وما صَنَعَ بها؟ فقال : لا أدْرِي، وما أظُنّه يُبْقى لنَفِسه مِنْها دِرهماً واحداً .

فكَتَبَ الفاروقُ إلى عُمَيْرٍ يقول : إذا جاءَكَ كتابي هذا فلا تَضَعْهُ من يَدِكَ حَتَّى تُقْبِلَ علَّى ، توجَّه عميرُ بنُ سَعْدٍ إلى المدينة ، ودَخَلَ على أميرِ المؤمنين فَحَيَّاه عُمَرُ ورحَّبَ به وأدنى مَجْلِسَهُ ، ثم قال له : ما صَنَعْتَ بالدنانير يا عُمَير؟ فقال : وما عليكَ مِنْها يا عُمَرُ بعد أنْ خَرَجتَ لي عنها؟ فقال : عَزَمْتُ عليك أنْ تُخْبِرَني بما صَنَعْتَ بها؟ فقال : ادَّخَرْتُها لِنَفْسي لأنتَفِعَ بها في يَوم لا يَنفَعُ فيه مالٌ ولا بَنون .

فَدَمَعَتْ عينا عُمَرَ وقال : أشْهَدُ أنَكَ من الذين يؤثرون على أنفُسِهم ولو كان بهم خصاصة ثم أمرَ له بِوَسق(ستون صاعا وهي تقدر بحمل بعير) من طعام وثَوبين فقال : أمَّا الطعامُ فلا حاجَةَ لَنَا بهِ يا أميرَ المؤمنين فَقَدْ تَرَكْتُ عندَ أهْلي صَاعَينِ من شَعيرٍ وإلى أنْ نأكُلهما يكون اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ قد جاءنا بالرزْق وأمَّا الثَّوْبان فآخُذُهما لأمِّ فُلانٍ (يعني زوجَتَه) فقد بَلِىَ ثَوْبُها وكادَتْ تَعْرَى .

لم يمضِ طويلُ وَقتٍ على ذلك اللِّقاءِ بينَ الفاروقِ وصاحبِه حَتَّى أذِنَ اللّه لِعُمَيْرِ بن سعدٍ بأن يَلْحَقَ بِنَبِيِّه وقُرَّةِ عَيْنه محمدِ بنِ عبدِ اللّه بعد أن طالت أشْواقُه إلى لِقائِه ، فَمَضَى عميرٌ في طريق الاَخرةِ وادِعَ النَّفْسِ واثِقَ الخَطو لا يُثْقِلُ كاهِلَهُ شَيء من أحمالِ الدُّنْيا ولا يؤودُ(يثقل ظهره ويتعبه) ظَهْرَه عِبء من أثْقَالها ، مَضَى لَيْسَ معه إلا نورُه وهداه وَوَرَعُه وتقاه .

فلما بلغ الفاروقَ نَعْيُهُ وَشَّحَ الحُزْنُ وَجهه واعتَصرَ الأسى فؤاده وقال : (وَدِدْتُ أنَّ لي رجالاً مِثْلَ عُمَيْرِ بنِ سَعْدٍ أسْتَعينُ بهم في أعمالِ المسلمين) رضى اللّه عن عمير بن سعدِ وأرضاه فقد كان نمطاً فريداً بينَ الرِّجال وتلميذاً مُتَفَوقاً في مدرسةِ محمدِ بن عبد اللّه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى