قصص قصيرة

حدث في رمضان ذات عام .. قصة رائعة بقلم : محمد لبيب البوهي

استمتعوا معنا الآن بقراءة قصة جديدة ممتعة من خلال موقعنا قصص واقعية بعنوان حدث في رمضان ذات عام للكاتب محمد لبيب البوهي ، وللمزيد يمكنكم زيارة قسم : قصص قصيرة .

حدث في رمضان ذات عام

كان ذلك منذ نحو ستين عاما مضت عندما كنت طلاً صغيراً في الربع الاول من هذا القرن العشرين الميلادي الذي نرجو ان ينتهي باحداثه ويقبل القرن الجديد بخير كثير ان شاء الله اذا صلحت أمور المسلمين جميعاً وصار المسلم اخا للمسلم حيث كان وفي أي زمان في ظل قول الله تعالي : ” إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين اخويكم ” سورة الحجرات الآية 10 .

في هذا الزمن الذي اراه بعيداً في عمر حياتي الشخصية وهذا الزمن لا يعد ذرة في صحراء الابدية حتي تقوم الساعة، كنت اعيش مع اهلي في مدينة القاهرة عاصمة مصر، وكنت تلميذا في مدرسة ابتدائية كانت بجوار الجامع الأزهر الشريف، وهو جامع كبير تخرج منه الوف من العلماء على مر الزمان لأن عمره يزيد عن الف عام. وحدثت في البلاد المصرية ثورة عرفت باسم ثورة عام 1919 في البلاد لمقاومة الاحتلال الانجليزي الذي كان يحتل هذه البلاد، وكنا نساهم في المظاهرات التي لم يرض عنها الانجليز، فكان ماحدث أنهم ضربوا المدرسة التي كنت أتعلم فيها وأغلقوها ولما كنا نقيم بقرب الجامع الأزهر الذي كان ولم يزل منارة العلم وهو مفخرة لمصر يفوق فخرها باثارها الفرعونية القديمة كالأهرام وأثار اخرى في طول البلاد وعرضها.

ولما ضرب الانجليز المدرسة وأغلقوها الحقني اهلي مع كثير من الأطفال باحدى حلقات التعليم بالجامع الأزهر، حيث كان فيه أقسام التعليم الاطفال آيات القرآن المجيد مع قدر من اللغة العربية والحساب.. والجامع الأزهر يقوم على مئات من الأعمدة الرخامية الجميلة التي تحمل سقفه فهو مسجد كبير جدا. وفي الزمن الذي ذكرته كان التعليم بالازهر يتم في حلقات حول الأعمدة المذكورة. وكل حلقة يتحلق عندها التلاميذ تحت رعاية شيخ معمم كنا نلقبه بسيدنا فالتحقت بحلقة الشيخ أحمد النكلاوي رحمه الله. ولا زلت أقرأ فاتحة الكتاب الكريم لروحه بين الحين والاخر فمن علمني حرفا صرت له من باب الوفاء والتقدير عبدا، فهذا من أدب الإسلام الذي جعل العلم فريضة وأمر بالوفاء اللذين احسنوا الينا.

وكنا في حلقة الشيخ النكلاوي رحمه الله نحو أربعين طفلا من السابعة وما فوقها إلى نهاية سن الطفولة، والذين هم أكبر سنا كانت لهم حلقة أكبر مع شيخ آخر حول عمود آخر. وكنا نكتب الآيات والدروس على الواح من الصفيح المصقول الذي لايصدأ ونعلق هذه الالواح بخيط متين في أعناقنا ونحمل دواة من الحبر الأسود وأقلاما كانت تصنع من البوص، وكلما حفظنا درسا قمنا بمحوه من اللوح الكتابة الدرس الجديد، وكان ذلك يتم يوما بعد يوم لأننا كنا في البيوت نحفظ جيدا ماعلمنا إياه سيدنا الشيخ.

هكذا كان الأمر قبل أن تتقدم وسائل الكتابة في مثل هذه الكتاتيب فاصبحت الدروس تكتب في كراسات ويسهل الرجوع اليها. وكان يساعد الشيخ شاب متعلم يسمى العريف كان يردد مايقوله الشيخ ونردد من خلفه في أدب وخشوع، فكان لأصواتنا الصغيرة دوی النحل وكانت هناك عادات لطيفة تنمو معها روح الأخوة بين الصغار منها ان كل واحد منا كان يحمل في حقيبته التي كانت من القماش طعام غدائه الذي كانت تعده لنا في البيوت أمهاتنا، وكان منا الأغنياء ومنا دون ذلك فان ما ناتي به من البيوت للغداء مختلفا فهذا يأتي في حقيبته بخبز من نوع جيد وبعض الشواء من اللحم أو الدجاج وآخرون لايستطيعون أن يحضروا معهم غير قطع من الخبز الجاف وبعض قطع الخيار المملح، ولكي ينمي الشيخ فينا روح المساواه كان يأمر كل واحد بان يضع غداءه في ركن معد لذلك ونخلط بعضه ببعض فلا يدري احدنا بمن جاء بالطعام الممتاز عن سواه، ونجلس جميعا بعد صلاة الظهر التي كنا نؤديها كلنا جماعة خلف الشيخ أوالعريف.

وكنا نخرج نحو ساعة بعد الصلاة والغداء إلى فناء للفسحة ورأينا ذات يوم طفلا من زملائنا فاطرا غير صائم في رمضان فحاصرناه بالتصفيق خارج الدرس في الفناء ورحنا نخزیه بهتاف عال قائلين جميعا في صوت واحد (يافاطر رمضان باخاسر دينك) فبكى واسرع إلى بيته حزينا متأثرا مما احطناه به من الهزء والسخرية. ولما علم سیدنا الشيخ بذلك غضب ونهرنا جميعا وراح يقول لماذا كنتم عونا للشيطان على أخيكم مع ان كلكم اخوة. ولا تدرون لماذا هو قد أفطر ولم يصم ولم تذكروا قول الله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ۱۸٤ / البقرة

والاسلام دين التيسير على الناس، فشعرنا جميعا بالخزي والندم اذ رحنا نشهر به وجعلناه يبكي، ويفر من أمامنا عندما رأيناه فاطرا في رمضان، واختار الشيخ ثلاثة منا وأمرنا أن نذهب مع مساعده إلى منزل صاحبنا لنعتذر اليه ونصالحه .. ولما ذهبنا وطرقنا الباب استقبلنا مغضبا وعاد إلى البكاء فازداد حزننا وندمنا بعد ان جاء اخوه الأكبر واخبرنا بمرض صاحبنا في ذلك اليوم حيث أمره الطبيب بالإفطار لهذا العذر الذي أباحه الله سبحانه وتعالى رحمة بالناس۔ فابدينا نيابة عن اخواننا جميعا الندم والاعتذار ومازلنا كذلك حتى تبسم صديقنا وتقبل منا. وطلب منه العريف ان يعود الى دروسه في الحلقة بالأزهر وان الشيخ سيرحب به لأنه يحبه كسائر أبنائه وتلاميذه جميعا.

وتم الصلح بيننا وهو مايأمر الله به وان نكون اخوانا متحابين متسامحين كما تأمرنا آيات الله سبحانه لأن ماحدث منا لأخينا كان من عمل الشيطان الرجيم الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس) / الناس وأخبرنا الشيخ أن كل فكر سيء وكل شيء من الشر انما هو من تدبير الشيطان فعلينا أن نحذره لانه العدو الأكبر للانسان في كل زمان وكل مكان وانه لاياتي ظاهرا حتى نطرده ونحذره وانما يأتي إلى الانسان في الخفاء وقد قال الله تعالى ( انه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) 27 / الأعراف

ولما عاد اخونا الينا فرحنا به كثيرا وفكرنا في تكريمه بأن نقدم له هدية ورحب الجميع بذلك وتنازل كل واحد عن شيء من مدخراته ومصروفه لشراء الهدية ولكن صاحبنا شكرنا وقال بدلا من الهدية لي فلنعط هذا المبلغ تبرعا الأحد حراس أبواب المسجد وهو العم خليل الذي كان يبدو عليه الفقر ويحبنا وهذا هو الواجب وخاصة في شهر رمضان الذي هو شهر الكرم والعطاء،. ففعلنا ما أشار به أخونا .

وعادت المودة بين الجميع وعاد إلى عادته معنا في احتفالنا في ليالي رمضان الجميله بشيء من اللهو البريء فكان كل واحد ياتي بعد صلاة العشاء بفانوس جميل ذي زجاج ملون وبداخله شمعة مضاءة ننهز الفوانيس في رفق ونحن ندور مهنئين ذوينا بين حارات بيوتنا ونحن نردد بصوت جماعي جميل بنشيد كان خفيفا شائعا في تلك الأيام الماضية: (وحوي ياوحوي يارمضان) ولم نكن نفهم معناها ولكننا كنا نهتف بها في سعادة وسرور ويقدم الينا أهلنا الهدايا الصغيرة وهم سعداء بأبنائهم الصغار الذين كانوا يصومون بالنهار ويلهون هذا اللهو الحلو البريء في المساء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى